فصل: تفسير الآيات (49- 55):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وبني الفعل للمجهول لظهور أن الهازم المسلمون.
و {يولُّون}: يجعلون غيرهم يلي، فهو يتعدى بالتضعيف إلى مفعولين، وقد حذف مفعوله الأول هنا للاستغناء عنه إذ الغرض الإِخبار عنهم بأنهم إذا جاء الوغى يفرون ويولُّونكم الأدبار.
و {الدُّبُر}: الظهر، وهو ما أدبر، أي كان وراءً، وعكسه القبل.
والآية: إخبار بالغيب، فإن المشركين هُزموا يوم بدر، وولوا الأدبار يومئذٍ، وولوا الأدبار في جمع آخر وهو جمع الأحزاب في غزوة الخندق ففرُّوا بليل كما مضى في سورة الأحزاب وقد ثبت في (الصحيح) أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج لصف القتال يوم بدر تلا هذه الآية قبل القتال، إيماء إلى تحقيق وعد الله بعذابهم في الدنيا.
وأفرد الدبر، والمراد الجمعُ لأنه جنس يصدق بالمتعدد، أي يولي كل أحد منهم دبره، وذلك لرعاية الفاصلة ومزاوجة القرائن، على أن انهزام الجمع انهزامة واحدة ولذلك الجيش جهة تولَ واحدة.
وهذا الهزم وقع يوم بدر.
روي عن عكرمة أن عمر بن الخطاب قال: لما نَزلت {سيهزم الجمع ويولون الدبر} جَعَلْتُ أقول: أيُّ جمع يهزم؟ فلما كان يومُ بدر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع، ويقول: {سيهزم الجمع ويولون الدبر}. اهـ.، أي لم يتبين له المراد بالجمع الذي سيُهزم ويولِّي الدبر فإنه لم يكن يومئذٍ قتال ولا كان يخطر لهم ببال.
{بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)}.
{بل} للإِضراب الانتقالي، وهو انتقال من الوعيد بعذاب الدنيا كما حل بالأمم قبلهم، إلى الوعيد بعذاب الآخرة.
قال تعالى: {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون} [السجدة: 21]، وعذاب الآخرة أعظم فلذلك قال: {والساعة أدهى وأمر} وقال في الآية الأخرى {ولعذاب الآخرة أشد وأبقى} [طه: 127] وفي الآية الأخرى {ولعذاب الآخرة أخزى} [فصلت: 16].
و {الساعة}: علم بالغلبة في القرآن على يوم الجزاء.
والموعد: وقت الوعد، وهو هنا وعد سوء، أي وعيد.
والإِضافة على معنى اللام أي موعد لهم.
وهذا إجمال بالوعيد، ثم عطف عليه ما يفصّله وهو {والساعة أدهى وأمر}.
ووجه العطف أنه أريد جعله خبرًا مستقلًا.
و {أدهى}: اسم تفضيل من دهاه إذا أصابه بداهية، أي الساعة أشد إصابة بداهية الخلود في النار من داهية عذاب الدنيا بالقتل والأسر.
وأمرُّ: أي أشدّ مرارة.
واستعيرت المرارة للإحساس بالمكروه على طريقة تشبيه المعقول الغائب بالمحسوس المعروف.
وأعيد اسم {الساعة} في قوله: {والساعة أدهى} دون أن يؤتي بضميرها لقصد التهويل، ولتكون الجملة مستقلة بنفسها فتسيرَ مسيرَ المثَل.
{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47)}.
هذا الكلام بيان لقوله: {والساعة أدهى وأمر} [القمر: 46].
واقتران الكلام بحرف {إن} لفائدتين؛ إحداهما: الاهتمام بصريحه الإِخباري، وثانيهما: تأكيد ما تضمنه من التعريض بالمشركين، لأن الكلام وإن كان موجهًا للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو لا يشك في ذلك فإن المشركين يبلغهم ويشيع بينهم وهم لا يؤمنون بعذاب الآخرة فكانوا جديرين بتأكيد الخبر في جانب التعريض فتكون {إنّ} مستعملة في غرضيها من التوكيد والاهتمام.
والتعبير عنهم بـ {المجرمين} إظهار في مقام الإِضمار لإِلصاق وصف الإِجرام بهم.
والضلال: يطلق على ضد الهدى ويطلق على الخُسران، وأكثر المفسرين على أن المراد به هنا المعنى الثاني.
فعن ابن عباس: المراد الخسران في الآخرة، لأن الظاهر أن {يوم يسحبون في النار} طرف للكون في ضلال وسعُر على نحو قوله تعالى: {يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوب يومئذٍ واجفة} [النازعات: 6 8]، وقوله: {ويوم القيامة هم من المقبوحين} [القصص: 42] فلا يناسب أن يكون الضلال ضد الهدى.
ويجوز أن يكون {يوم يسحبون} ظرفًا للكون الذي في خبر {إن}، أي كائنون في ضلال وسعر يوم يسحبون في النار.
فالمعنى: أنهم في ضلال وسعر يوم القيامة و{سُعُر} جمع سعير، وهو النار، وجُمع السعير لأنه قوي شديد.
والسحْبُ: الجَرّ، وهو في النار أشد من ملازمة المكان لأنه به يتجدد مماسة نار أخرى فهو أشد تعذيبًا.
وجُعل السحْب على الوجوه إهانة لهم.
و {ذوقوا مس سقر} مقول قول محذوف، والجملة مستأنفة.
والذوق مستعار للإِحساس.
وصيغة الأمر مستعملة في الإِهانة والمجازاة.
والمس مستعمل في الإِصابة على طريقة المجاز المرسل.
وسَقَر: عَلَم على جهنم، وهو مشتق من السَّقْر بسكون القاف وهو التهاب في النار، ف {سقر} وضع علَمًا لجهنم، ولذلك فهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث، لأن جهنم اسم مؤنث معنىً اعتبروا فيه أن مسماه نار والنار مؤنثة.
والآية تتحمل معنى آخر، وهو أن يراد بالضلال ضد الهدى وأن الإِخبار عن المجرمين بأنهم ليسوا على هُدى، وأن ما هم فيه باطل وضلال، وذلك في الدنيا، وأن يُراد بالسُّعر نيران جهنم وذلك في الآخرة فيكون الكلام على التقسيم.
أو يكون السُّعر بمعنى الجنون، يقال: سُعُر بضمتين وسُعْر بسكون العين، أي جنون، من قول العرب ناقة مسعورة، أي شديدة السرعة كأن بها جنونًا كما تقدم عند قوله تعالى: {إنا إذن لفي ضلال وسعر} في هذه السورة (24).
وروي عن ابن عباس وفسر به أبو علي الفارسي قائلًا: لأنهم إن كانوا في السعير لم يكونوا في ضلال لأن الأمر قد كشف لهم وإنما وصف حالهم في الدنيا، وعليه فالضلال والسعر حاصلان لهم في الدنيا. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
بصيرة في الدبر:
الدُّبُرُ والدُّبْر: الظَّهر، قال الله تعالى: {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} جعله للجماعة كقوله تعالى: {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} والجمع أَدبار.
قال تعالى: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} أي قُدّامهم وخَلْفهم.
وقال: {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} أي لا تنهزموا.
والدُّبُر والدُّبْر أَيضا: خلاف القُبُل والقُبْل.
ودُبُر الأَمر ودُبْره: آخره.
قال الكُميْت:
أَعهدَكَ من أولَى الشَّبيبَةِ تطْلُبُ ** على دُبُرٍ هيهات شَأْوٌ مُغَرِّبُ

وأَدبار السّجود: أَواخر الصّلوات.
وقرئ {وإِدبار النُّجوم} بالفتح والكسر، فالبكسر مصدر مجعول ظرفًا نحو مَقْدَم الحاجّ وخُفُوق النجم، وأَدبار بالفتح جمع.
ويشتقّ منه تارة باعتبار دُبُر الفاعل كقولهم: دَبَر فلان، وأَمس الدابر {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} وباعتبار دبر المفعول، دَبَر السّهم الهَدَفَ أي سقط خَلْفه، ودَبر فلان الفوم: صار خلفهم.
والدّابر يقال للمتأَخِّر والتَّابع إِمّا باعتبار المكان وإِمّا باعتبار الزَّمان أَو باعتبار المَرْتبة.
وأَدبر: أَعرض وولَّى دُبُره.
قال تعالى: {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} قال صلى الله عليه وسلم «لا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إِخوانًا» وقيل: لا يذكر أَحدكم صاحبه مِن خلفه.
والاستدبار طلب دُبُر الشَّئ.
وتدابر القوم إِذا ولَّى بعضهم عن بعض، والدِّبار: مصدر دابرته أي عاديته مِن خلفه.
والتَّدبير: التفكُّر في دُبُر الأَمور.
قوله تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} يعنى: ملائكة موَكَّلة بتدبير أُمور.
ودابِرُ كلِّ شئٍ: آخره.
ويقال: قطع الله دابرهم، أي آخر من بَقِىَ منهم.
وقوله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أي استأصل الله شأْفتهم.
ودابرهم: أَصلهم.
ومثله قوله تعالى: {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} أي لا يُبقى منهم باقية.
ومثله قوله عزَّو جلّ {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} أي آخرهم.
ودابِر الرّجل: عقبه.
والدَّبار: الهلاك الذي يقطع دابرهم.
ودَبَر اللَّيل: أَدبر، قال تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} وهى قراءة غير نافع وحمزة وحَفص ويعقوب وخَلَف.
ودَبَر فلان القوم أي كان آخرهم، ومنه قول عمر: ولكنَّنى كنت أَرجو أَن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتَّى يَدْبُرنا.
والدَّبُور.
الرّيح التي تقابل الصَّبا.
ودُبِر كعنى: أَصابته ريحُ الدَّبو.
وأَدبر: خلاف أَقبل، قال تعالى: {وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} وأَدبر النهار: ولَّى، قال: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} وهى قراءة من تقدّم ذكره.
والتدبّر: التفكُّر، يقال: تدبّرت الأَمر إِذا نظرت في أَدباره.
ومنه قوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن} أي أَفلا يتفكَّرون فيعتبروا، وقوله: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ الْقول} أي أَفلم يتفهَّموا ما خوطبوا به في القرآن.
والدَّبْر: النَحْل والزنابير ونحوهما مما سلاحها في أَدبارها. اهـ.

.تفسير الآيات (49- 55):

قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أخبر بقيام الساعة وما يتفق لهم فيها جزاء لأعمالهم التي قدرها عليهم وهي ستر فرضوا بها لاتباع الشهوات واحتجوا على رضاه بها، وكان ربما ظن ظان أن تماديهم على الكفر لم يكن بإرادته سبحانه، علل ذلك منبهًا على أن الكل فعله، وإنما نسبته إلى العباد بأمور ظاهرية، تقوم عليهم بها الحجة في مجاري عاداتهم، فقال: {إنا} أي بما لنا من العظمة {كل شيء} أي من الأشياء المخلوقة كلها صغيرها وكبيرها.
ولما كان هذا التعميم في الخلق أمرًا أفهمه النصب، استأنف قوله تفسيرًا للعامل المطوي وإخبارًا بجعل ذلك الخلق كله على نظام محكم وأمر مقدر مبرم {خلقناه بقدر} أي قضاء وحكم وقياس مضبوط وقسمة محدودة وقودة بالغة وتدبير محكم في وقت معلوم ومكان محدود مكتوب في ذلك اللوح قبل وقوعه تقيسه الملائكة بالزمان وغيره من العد وجميع أنواع الأقيسة- فلا يخرم عنه مثقال ذرة لأنه لا منازع لنا مع ما لنا من القدرة الكاملة والعلم التام، فهذا العذاب بقدرتنا ومشيئتنا فاصبروا عليه وارضوا به كما كنتم ترضون أعمالكم السيئة ثم تحتجون على عبادنا بأنها مشيئتنا بنحو {ولو شاء الله ما أشركنا} [الأنعام: 148] فقد أوصلكم إلى ما ترون وانكشف أتم انكشاف أنه لا يكون شيء على خلاف مرادنا، ولا يقال لشيء قدرناه: لم؟ قال الرازي في اللوامع: الكمية ساقطة عن أفعاله كما أن الكيفية والكمية ساقطتان عن ذاته وصفته- انتهى.
ولا يكون شيء من أمره سبحانه إلا ما هو على غاية الحكمة، ولو كان الخلق لا يبعثون بعد الموت ليقع القصاص والقياس العدل ليكون القياس جزافًا لا بقدر وعدل، لأن المشاهد أن الفساد في هذه الدار من المكلفين من الصلاح أضعافًا مضاعفة، وقرئ في الشواذ برفع {كل} وجعله ابن جني أقوى من النصب، وليس كذلك لأن الرفع لا يفيد ما ذكرته، وما حمله على ذلك إلا أنه معتزلي، والنصب على ما قدرته قاصم لأهل الاعتزال.
ولما بين أن كل شيء بفعله، بين يسر ذلك وسهولته عليه فقال: {وما أمرنا} أي كل شيء أردناه وإن عظم أثره، وعظم القدر وحقر المقدورات بالتأنيث فقال: {إلا واحدة} أي فعلة يسيرة لا معالجة فيها وليس هناك إحداث قول لأنه قديم بل تعلق القدرة بالمقدور على وفق الأرادة الأزلية، ثم مثل لنا ذلك بأسرع ما يعقله وأخفه فقال؛ {كلمح بالبصر} فكما أن لمح أحدكم ببصره لا كلفة عليه فيه، فكذلك الأفعال كلها، بل أيسر من ذلك.
ولما أخبر بتمام قدرته، وكان إهلاك من ذكر من الكفار وإنجاء من ذكر من الأبرار في هذه السورة نحوًا مما ذكر من أمر الساعة في السهولة والسرعة، دل على ذلك بإنجاء أوليائه وإهلاك أعدائه فذكر بهم جملة وبما كان من أحوالهم بأيسر أمر لأن ذلك أوعظ للنفوس وأزجر للعقول، فقال مقسمًا تنبيهًا على عادتهم في الكفر مع هذا الوعظ فعل المكذب بهلاكهم لأجل تكذيبهم عاطفًا على ما تقديره: ولقد أنجينا رسلنا وأشياعهم من كل شيء خطر: {ولقد أهلكنا} أي بما لنا من العظمة {أشياعكم} الذين أنتم وهم شرع واحد في التكذيب، والقدرة عليكم كالقدرة عليهم، فاحذروا أن يصيبكم ما أصابهم، فلذلك سبب عنه قوله: {فهل من مدكر} أي بما وقع لهم أنه مثل من مضى بل أضعاف.، وأن قدرته سبحانه عليه كقدرته عليهم ليرجع عن غيه خوفًا من سطوته سبحانه.
ولما تمت الدلالة على إحاطة القدرة بما شوهد من الأفعال الهائلة التي لا تسعها قدرة غيره سبحانه، وكانوا يظنون أن أحواله غير مضبوطة لأنه لا يمكن ضبطها ولا يسعها علم عالم ولا سيما إذا ادعى أنه واحد، شرع في إتمام الإخبار بعظمة القدر بالإخبار بأن أفعالهم كلها مكتوبة فضلًا عن كونها محفوظة فقال: {وكل شيء فعلوه} أي الأشياء في أيّ وقت كان، كأن بالكتابة {في الزبر} أي كتب الحفظة فليحذروا من أفعالهم فإنها غير منسية، هذا ما أطبق عليه القراء مما أدى إلى هذا المعنى من رفع كل، لأنه لو نصب لأوهم تعلق الجار بالفعل فيوهم أنهم فعلوا في الزبر كل شيء من الأشياء وهو فاسد.